تنمية ريادة الأعمال في مجالات غير تقليدية: دروس من بيئة ريادة الاعمال في العراق


الكاتب: آن صوفي ساباتوتشي

المنصب: مرشح للدكتوراة في ريادة الأعمال في كلية كيلي للأعمال بجامعة إنديانا


 لقد أُجْرِيَت معظم الأبحاث حول بيئات ريادة الأعمال (سنشير إليها بـ"بيئات الريادة") وكيفية تطورها في بُلدانٍ تتمتع بقطاع خاص متقدمٍ للغاية وظروفٍ مواتيةٍ لريادة الأعمال. وعادةً ما يكون لدى هذه البلدان لوائح تنظيمية تدعم الشركات والمنافسة العادلة، ويخدمها نظامٌ مصرفي قوي ومعززٌ رقمياً، وتسودها ثقافةٌ موجهةٌ نحو الأعمال، وتستند على قاعدة معرفية تغذيها غالباً عدة شركات محلية نشطة. ولكي تتطور بيئة الريادة في مثل هذه السياقات، يتوجب على البيئات المحلية للأعمال أن تدعو روادها الواعدين المحنكين في هذا المجال والمتفرغين للعمل وتنسق بينهم. وعلى النقيض من هذا نشأت بيئة الريادة العراقية بغياب هذه الأسس المتطورة القائمة على السوق والثقافة والقطاع الخاص. ولذا لم يقتصر الأمر فيها على دعوة رواد الأعمال الواعدين إلى السعي في تعزيز الريادة واستدامتها محلياً، بل توجَب على هذه البيئة أن تفعل أكثر من ذلك بكثير: فقد نهضت وتوسعت، وبذا مهدت الطريق لتنمية القطاع الخاص في البلاد. ولذلك أضحيت مهتمةً كباحثة بدراسة الجهود الرائعة التي تبذلها بيئة الريادة في العراق. 

حصل أول تفاعل لي مع مشهد الشركات الناشئة في العراق في حزيران من عام 2022 عندما حضرت حدثاً للتواصل استضافه فرع المحطة في أربيل وذُهِلتُ حينها من حماس الجميع بالحركة المثيرة الحاصلة في مجال الشركات الناشئة في العراق. لذا قررت منذ ذلك اللحظة أن أسبر أغوار بيئة الريادة في العراق لأكتشف كيف تطورت ببطء ولكن بثبات في خضم التحديات الجليّة. رغم أن بحثي ما زال غير مكتمل، لكنّي وددت أن أشارك بعض الأفكار من التحليل الأولي للبيانات التي جمعتها خلال العام الماضي (لاحظوا أنني في سردي لهذه الأفكار، سأطرز ثنايا مقالتي باقتباسات مقتضبة من المقابلات التي أجريتها مع أشخاص منخرطين في بيئة الريادة العراقية). لقد وجدت أن بيئة الريادة في العراق ما زالت مستمرةً في بناء جيلٍ من رواد الأعمال والموظفين الرياديين الماهرين في الأعمال المستعدين للانضمام إلى الشركات الناشئة حديثاً -وهذا أمر بالغ الأهمية- وقد حفزت هذه البيئة خريجيها على الاستمرار فيها والمساهمة في توسعها. ولتحقيق ذلك، شاركت بيئة الريادة في أنشطة مختلفة أُلَخِصُها بإيجاز في التالي:


إنشاء مراكز الشباب


أولاً، اجتذبت عموم الشباب العراقيين من طلاب الجامعات أو الخريجين الجدد الذين ليس لديهم معرفة مسبقة بريادة الأعمال إلى مساحاتها وورش العمل وشبكة العلاقات الاجتماعية. لقد قدمت لهم بيئة الريادة شيئاً مختلفاً لم يعتادوا عليه في العراق. ومن الأمثلة على ذلك أنّ بيئة الريادة روجت لورش عمل مجانية أو سهلة الوصول حول مواضيع متنوعة للغاية تشمل البرمجة، والروبوتات، والهندسة المعمارية، وصناعة الأفلام وغيرها – والتي لا ترتبط بالضرورة ارتباطاً مباشراً بالأعمال التجارية أو ريادة الأعمال. لقد وفرت أماكن دراسية مصممة بحرفية ومزودة بالواي-فاي حيث يمكن للشباب العراقيين الجلوس بحرية وقضاء بعض الوقت معاً، دون أن "يزعجهم أحد" (كما أخبرني أحدهم). كما نظمت مراراً محافل مجانية متعلقة بالتكنولوجيا أو الثقافة بمشاركة خبراء ملهمين محليين وأجانب. لقد أدى وجود هذه المراكز إلى خلق تحاورٍ شفهي بين الشباب العراقي. مفتونين بما بدا "غريباً" و"فريداً" في أعينهم، انجذبوا إلى بيئة الريادة التي فتحت لهم مساحات العمل المشترك ومساحات الصُناع (maker spaces)، وراحوا يرتادون المقاهي حيث يتحدث الناس عن ريادة الأعمال (هذه "اللغة الجديدة" على مسامع الكثيرين)، وانضموا إلى فضاءات مخصصة للريادة في مجموعات التليكرام وفيسبوك. وكانت هذه المواقع، التي يمكن القول بأنها "مراكز الشباب"، شديدة الاهمية في جذب الشباب العراقي إلى مجال ريادة الأعمال. 


بناء برامج دعم ريادة الأعمال


ثانياً، أقنعت بيئة الريادة الشباب والشابات الذين انجذبوا حديثاً إلى مساحاتها بالانضمام إلى برامج الحاضنات، ومسابقات الشركات الناشئة، وبرامج التدريب على مهارات الأعمال بالإضافة إلى التكنولوجيا (والتي غالباً ما تطلب من المشاركين تطوير فكرة شركة ناشئة تتعلق بالمهارات التي تُدَرَس). بالإضافة إلى التعليم، سمحت هذه البرامج للشباب العراقيين بتذوق تجربة تقديرهم كأفراد عند الانخراط في ريادة الأعمال – فقد شعروا بأنهم "يستحقون" جهد المدربين الذين "آمنوا بهم". وتدرب المشاركون على التفكير، والترويج، والتصرف مثل رواد الأعمال، والبناء والعمل في فرق مثل الشركات الناشئة. لقد فازوا بجوائز وقوبلت محاولاتهم بالتقدير والإشادة. كثيراً ما سمعت اعتراضات من منظمات الدعم حول إعادة تدوير ذات المشاركين في العديد من تلك البرامج. ومع ذلك، سرعان ما أدركت عندما تحدثت مع الشباب في هذه البيئة أنّهم كان عليهم أن ينضموا لأكثر من برنامج كي يزيدوا الثقة والحافز المستمر للانخراط في ريادة الأعمال، لأن معظمهم قد نشأ في أسرٍ لديها إيمان راسخ بأفضلية خيارات أخرى "أكثر أماناً". تشير المسارات الوظيفية غالباً إلى الوظائف الرتيبة في القطاع العام التي تضمن رواتباً مضمونة ومعاشاً تقاعدياً وفرص ضئيلة أو معدومة للتسريح من العمل.


ولادة رائد الأعمال العراقي


ثالثاً، حولت بيئة الريادة هؤلاء العراقيين المتحمسين الجدد تدريجياً إلى رواد أعمال. وبمرور الوقت، أصبح العديد منهم رواد أعمال موظفين بينما أسس آخرون شركاتهم الناشئة. وكان دور برامج التسريع والشركات الناشئة العراقية وشركات التكنولوجيا العالمية الناشئة جوهرياً في عملية التغيير هذه. وعلى سبيل المثال، وَظَفَت الشركات الناشئة الأكثر رسوخاً في كثير من الأحيان (ولكن ليس حصرياً) شباباً عراقيين شاركوا في العديد من هذه الأنشطة التي ذكرناها. لقد جعلوهم ينخرطون حقاً في نشاطات ريادة الأعمال: وأظهروا لهم المعنى الحقيقي لريادة الأعمال في العراق (العمل الشاق) وكيف يصبحون رواداً، وساعدوهم على إدارة تطورهم الشخصي كرواد. طُلب من الموظفين تصور أفكار جديدة، واختبارها، وتحمل المسؤولية عن أخطائهم والتعلم منها، والاستمرار في العمل. من الأمثلة على هذه النشاطات أن شركة ناشئة خصصت دورياً كل شهر أموالاً إضافية لموظفيها لاختبار فكرة جديدة؛ وشجعت شركة ناشئة أخرى موظفيها على العمل في مشاريعهم بالإضافة إلى عملهم فيها؛ كان لدى شركة ناشئة ثالثة نظام مكافآت متطلب يدفع أو يخفض المكافآت بناءً على اقتراب الموظفين من أهدافهم وتحقيقهم لها. في البداية، عانى الكثيرون بعدما تلاشت "الأحلام الوردية" التي كانت في تصورهم عن برامج التدريب، وشعر البعض أنهم تلقوا "صفعة على الوجه" - ولكن سرعان ما "استوعبوا جوهر الأشياء"، وانقلب هذا "التوتر" إلى "فخر" يدفع التقدم على المستوى الشخصي والجماعي، ومع مرور الوقت، تحول هؤلاء الشباب العراقيون إلى جيل من رواد الأعمال. 


رفع الحواجز الاجتماعية


رابعاً، حافظت بيئة الريادة على خط اتصال نشط ومستهدف مع هؤلاء الشباب العراقيين (وغالباً مع عائلاتهم أيضاً). لم يكن اجتذابهم أمراً بسيطاً قط، وتمكنت بيئة الريادة من التغلب على مقاومة العائلات للسماح لأولادهم بالمشاركة في أنشطة بيئة الريادة. على سبيل المثال، كان لدى إحدى المنظمات فريق عمل مخصص لمقابلة أولياء الأمور في المقاهي وكسب ثقتهم كي يسمحوا لأولادهم بالانضمام إلى برامجها التدريبية. كان تحفيز الشباب ليصبحوا رواد أعمال أمراً صعباً أيضاً. أخبرني أحد الرواد الناشئين أنّه كان متردداً في باديء الأمر بشأن الالتحاق بالتدريب المجاني الذي عُرِضَ عليه. لذلك، سأل المدربين بإصرار: "لماذا تفعلون هذا؟" و" ماذا تتوقعون منَّا في المقابل؟"؛ ولذا كان على بيئة الريادة أن تجيب وتشرح وتكسب ثقة الشباب العراقي أيضاً. والجدير بالذكر أنَّ الرواد الشباب الذين كانوا في طور الإنشاء كانوا يشعرون في بعض الأحيان بالخوف في هذه العملية أو جنحوا للاستسلام، لأنَ تَعَلُمَ ريادة الأعمال كان ينطوي في كثير من الأحيان على صراع. لقد أُذْهِلْتُ حقاً عند سماعي من عديد من المشاركين في بيئة الريادة قصصاً تلقيهم في الوقت المناسب دعماً جاء صدفةً عن طريق محادثة شخصية بين شخصين أو مكالمة هاتفية غير متوقعة من "مثلٍ أعلى" لهم كرائد أعمال ذو خبرة، أو مدير أول في شركة ناشئة أو مرشدٍ مثله، في الوقت الذي شككوا فيه في قدرتهم أو رغبتهم في الاستمرار. كان القدماء في بيئة الريادة على علم بطريقة أو بأخرى، فعملوا جميعاً كموجهين، سواء كُلِفوا بهذا الدور أم لم يُكلفوا، وكانوا يهتمون باستمرار بمشاكل الشباب — وهذا الاهتمام أمرٌ بالغ الأهمية لتجنب تخلي الشباب عن عملية التغيير. 


رعاية المجتمع


وأخيراً، حفزت بيئة الريادة هؤلاء الشباب العراقيين على المساهمة في تطوير بيئة الريادة. كيف ذلك؟ شيدت بيئة الريادة "منزلاً" آخر (استثنائياً) لهؤلاء الشباب العراقيين. قالت لي إحدى الشابات: "لقد كان منزلنا نوعاً ما... شعرت أن [الشركة الناشئة] كبرت، وكبرت معها". غالباً ما تقع مكاتب الشركات الناشئة في منازل فعلية وتعزز هذا الشعور. وصف الكثيرون بيئة الريادة بأنها مكان خاص يشعرون فيه بأنَّهم أنفسهم وعملهم وأفكارهم يحظون بالتقدير والاحترام مثل الآخرين، بغض النظر عن العمر أو الجنس أو الدين أو أي انتماء آخر. وقد حققت بيئة الريادة ذلك من خلال الترويج والحماية من انتهاكات قيم الخدمة والمصداقية. ونتيجة لذلك، فإن المساهمة في الحفاظ على ظروف مثل تلك التي توفرها بيئة الريادة أمر مستحسنٌ وطبيعي، وتوسيعها يعني السماح للعراقيين الآخرين بأن يمروا بذات التجربة. كما كشفت بيئة الريادة في كثير من الأحيان عن طموحها وأهدافها، إذ أخبرني أحد رواد الأعمال الشباب أن المشاركة في برنامج تسريع الأعمال وسع مداركه فأخبرني أنّه "قبل البرنامج... كنت أنفِقُ كلَ ما أجنيه من أموالٍ على السيارات، وأشتري أشياء لنفسي. لكن بعد هذا البرنامج، كما تعلمون... أدركت شيئاً... إنَ الأمر لا يتعلق الأمر بالمال... بل يتعلق ببناء ثقافة جديدة... إن موظفيك… هم بمثابة أولادك. وسوف تفخر بوجود هذا الفريق لديك." لذلك، طور الشباب في بيئة الريادة دافعاً جوهرياً للإضافة إلى الأنشطة المختلفة آنفة الذكر والمساهمة في بناء قوة عاملة قادرة على تنظيم المشاريع في العراق. 

وبهذه الطريقة رأينا بيئة الريادة تتوسع ببطء بسبب كُبرِ حجم مشروعها وعمقه، إلّا أنّ توسعها كان مطرداً. يؤدي توسع بيئة الريادة إلى نشر ثقافة الأعمال، وبناء الشركات، وجذب انتباه أصحاب المصلحة المعنيين بإنشاء مؤسسات أكثر رسمية قائمة على السوق في البلاد، وبالتالي تعزيز تنمية القطاع الخاص في العراق. على الرغم من أنّ بحثي حول الآليات المحددة التي مكنَت بيئة الريادة في العراق من التطور والتوسع ما يزال مستمراً، إلّا أنني آمل أن تعطي العناصر الموجزة التي فصلتها هنا لمحةً عن الجهد التعاوني الرائع للمشاركين في هذه البيئة في العراق.


More Arabic Articles

تمكين المَرأة في الإقتصاد الرقمي العراقي: مُبادرة "She Codes Too"

غدت المعرفة بالأمور الرقمية أمراً لا بد منه لسلك دروب عالمنا الحديث في مجتمعنا سريع التطوّر اليوم. ومع تَزايد اعتماد مُجتمعاتنا واقتصاداتنا... read more

مقابلة مع الدكتور حسن الخطيب

الدكتور الخطيب هو المستشار الاستراتيجي لرئيس وزراء العراق في كل شيء رقمي. وهو منصب يرفده بعقودٍ من الخبرة في مجال التكنولوجيا في... read more

استثمر في كوردستان: نظرة عامة على القطاعات ذات الأولوية

إقليم كوردستان العراق هو إقليمٌ يتمتع بالحكم الذاتي يقع في الجزء الشمالي من العراق، وله موقع استراتيجي مهمٌ عند التقاء أوروبا وآسيا... read more

تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في إقليم كوردستان: نظرة عامة على المهارات الرقمية والقطاعات وفرص الاستثمار

يقع إقليم كوردستان في شمال العراق ويضم أربع محافظات هي دهوك، والسليمانية، وحلبجة، وأربيل، والأخيرة هي عاصمته. تمتد هذه المحافظات مجتمعة على... read more

تحول التعليم الجامعي في كوردستان العراق: اجتياز العقبات وتبني التغيير الإيجابي

واجه التعليم في إقليم كوردستان العراق العديد من التحديات في الماضي، لكنه أيضاً شهد تحولاً مطرداً في السنوات الأخيرة. لقد أدرك الإقليم... read more

Posted in on Wednesday, 29th November, 2023