مقابلة مجلة لاندسكيب للأعمال


حسين القرغولي
مؤسس وشريك إداري في شركة فينكس المحدودة لشركاء التمويل

حسين القرغولي هو المؤسس والشريك الإداري لشركة فينكس المحدودة لشركاء التمويل، وهي شركة استشارات مالية واستثمار في مجال التكنولوجيا المالية يقع مقرها في المملكة المتحدة.

يملك حسين خبرة طويلة في مجال تمويل الشركات وأسواق رأس المال المَدين والمعاملات المصرفية للشركات. ومن بين عملائه المؤسسة الدولية للتمويل (IFC) الذي يعمل معها بوصفه استشارياً أقدم حول البنى التحتية والتصنيع والزراعة والخدمات في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وتركيا. كما إنه مستثمر وعضو المجلس التنفيذي لشركات التكنولوجيا المالية في مجال التقنيات التوزيعية لسلسلة الكتل (Block Chain)، والمدفوعات، وتمويل النظراء في أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا.

لقد لعب السيد القرغولي دوراً كبيراً في إعادة هيكلة ديون العراق قبل 2003؛ وفي هذه المقابلة، سيتكلم السيد القرغولي بالتفصيل عن هذه العملية وكم كانت جوهرية لكي يعيد العراق اتصاله بأسواق رأس المال الدولية. كما إنه سيتناول موضوع التغيير في الهيكل المالي العراقي وسوق رأس المال في العقدين المنصرمين، فضلاً عن الفرص المتوفرة في مجال التكنلوجيا المالية والتحديات الرئيسية وكيفية جعل العراق أكثر قابلية للاستثمار.


حبذا لو بدأنا بمقدمة موجزة عنك.

وُلدت في بغداد، وترعرعت في الفترة السابقة للحروب والعقوبات، ثم هاجرنا إلى الولايات المتحدة عام 1980. إنّ أيّ متتبع للتاريخ العراقي يعرف أنّ الفترة ما بين 1991 و 2003 لربما كانت الفترة التي سببت الدمار الأكبر للعراق ونسيجه الاجتماعي.

أنحدرُ من عائلة سياسية، حيث عاد جدي لأبي، عبد المجيد محمود القرغولي، إلى العراق بعد تخرجه من جامعة كاليفورنيا بيركلي وجامعة كورنيل وكان من أوائل المدراء العامين للمصرف الزراعي العراقي في الأربعينيات من القرن الماضي. ثم انتقل إلى عالم السياسة، حيث شغل أولاً منصب عضوٍ في البرلمان، ثم شغل عدة مناصب وزارية مثل وزيرٍ للاقتصاد والمالية ووزيرٍ للنفط ووزيرٍ للشباب. أما جدي لأمي، علي إحسان نشأت النقشبندي، فقد كان ضابطاً متقاعداً في الحرس الملكي ثم أصبح رجل أعمالٍ ناجح. كلاهما كان مصدر إلهامٍ مبكرٍ لي للعمل في مجال الخدمة العامة وكذلك ريادة الأعمال.

تخرج والدي من جامعة الحكمة في بغداد، وطوّر أثناء عمله كمهندسٍ مدني العديد من مشاريع المياه والبنى التحتية في جميع أنحاء البلاد. وفي صباي، كان يأخذني معه في رحلات عمله ويريني بفخر مشاريع البنى التحتية التي عمل عليها. لقد حملتني تلك الرحلات على تقدير التطور الذي حصل في العراق في السبعينيات والاعتزاز بذكريات جميلة عن مجتمع كادحٍ وأخلاقي.

وبعد مضي السنين، كبرتُ في الولايات المتحدة، وارتدتُ المدرسة الثانوية والجامعة هناك، ثم حصلت على شهادتي ماجستير في الدراسات العربية المعاصرة وإدارة الأعمال من جامعة جورج تاون. ثم حصلت بعد ذلك على أول وظيفة مصرفية لي في نيويورك مع شركة ميريل لينش. وفي عام 2003، بعد تغيير نظام الحكم في العراق، قررت العودة والمساعدة في إعادة الإعمار المالي للبلد الذي وُلدت فيه بدلاً من البقاء في نيويورك والاستمرار في مسيرتي المالية.


هلّا أخبرتنا المزيد عن دورك في إعادة هيكلة ديون العراق وكم كان ذلك مهماً للعراق؟

في عام 2003، عُيّنت في مصرف سيتي بنك بوصفي أول موظف مسؤول في العراق. أما على الصعيد المالي، فقد كانت أول مهمة كلّفني المجتمع الدولي بالقيام بها هي إعادة دمج العراق في أسواق رأس المال الدولية والتجارة الدولية. حيث شرعت سلطة الائتلاف المؤقتة في ذلك الوقت بإلغاء الحظر المالي الصارم والعقوبات المفروضة على البلاد بعد عام 1991.

لم يكن بالإمكان سداد جميع خطابات الاعتماد من مصرِفي الرافدين والرشيد في الثمانينيات، إذ إنّ أسعار النفط بدأت في الانهيار في أواخر الثمانينيات ولم يعد بإمكان العراق الالتزام بخطابات الاعتماد هذه بعد الآن. وعلاوة على ذلك، فرض المجتمع الدولي حظراً مالياً على البلاد عقب غزو الكويت. وعليه، فقد كانت حصيلة العراق من الحروب والعقوبات التي فُرضت عليه أكثر من 220 مليار دولار من الديون بحلول عام 2003.

إنّ هذا الوضع لن يضمن حتماً الاستدامة لأيّ بلد، لا سيما عند الأخذ بعين الاعتبار الناتج المحلي الإجمالي للعراق في ذلك الوقت؛ فضلاً عن أنّ نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي كانت عدة اضعاف، مما أدى إلى إفلاس العراق.

تقع ديون العراق السيادية في ثلاث فئات: الديون الحكومية لبلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (التي يُطلق عليها بديون نادي باريس)؛ والديون المستحقة للحكومات غير الأعضاء في نادي باريس؛ والدين التجاري للدائنين من القطاع الخاص.

لذا، فقد وُظِفنا في سيتي بنك بالتعاون مع بنك جي بي مورجان(JP Morgan)، لإعادة هيكلة الدين التجاري للعراق الذي يعادل 22 مليار دولار ويتألف أساساً من خطابات اعتماد غير مسددة. باع مالكو خطابات الاعتماد غير المسددة الأصليين عدداً من هذه الخطابات في السوق الدولية لتشتريها الصناديق الانتهازية. تتخصص الصناديق الانتهازية في شراء الورق غير المسددة، مثل خطابات الاعتماد من التجار، حيث سيحاولون بعد ذلك استرداد أموالهم من خلال مقاضاة المقترض في المحاكم الدولية، أي مقاضاة العراق في سياقنا هذا.

ونتيجة لخطابات الاعتماد غير المسددة هذه، لم يتمكن أكبر مَصرفين عراقيين في ذلك الوقت، وهما الرافدين والرشيد، من العمل كمصارف تصدير واستيراد للعراق بسبب مخاطر حجز الدائنين من الصناديق الانتهازية. وكان هذا هو السبب لسلطة الائتلاف المؤقتة لتأسيس المصرف العراقي للتجارة، والذي كان من المفترض أن يحلّ محلّ مصرفي الرافدين والرشيد بوصفه المصرف الجديد للتجارة.


استغرق تنفيذ إعادة هيكلة ديون العراق ثلاث سنوات من حياتي، وكنت أحد أعضاء الفريق الأساسيين في تلك الصفقة. لقد كان شرفاً لي أن أكون جزءاً من هذه الصفقة، لأننا قضينا على 80% من ذلك الدين الذي كانت ستتكبده الأجيال القادمة من العراقيين. أما الـ 20% المتبقية، فإنها ستُسدد على مدى 28 عاماً (حتى عام 2028). فازت تلك الصفقة بجائزة «مراجعة التمويل الدولية» المرموقة لافضل صفقة لذلك العام. وإنني أعدّ ذلك الإنجاز بوصفه أحد أكثر الإنجازات التي لم تذكر ولم تحظ بالتقدير الكافي والتي حققها المجتمع المالي الدولي في مساعدة العراق في البداية على إعادة الاندماج مع العالم من جديد.

كانت خطابات الاعتماد غير المسددة هذه مملوكة لشركات صناعية أوروبية وشركات تجارية يابانية وشركات مقاولات كورية، بالإضافة إلى تجار صغار إلى متوسطي الحجم يبيعون البضائع إلى العراق. كما سدد العراق هذه المبالغ في شكلين: الأول لصغار التجار، وقد دفع العراق لهم نقداً. أما بالنسبة للشركات الكبرى، فقد منحوا سنداً. وإذ أنّ الشركات الكبرى لم يكونوا المالكيين الطبيعيين لهذه السندات، فقد انتهى بهم الأمر إلى بيعها وتداولها في أسواق رأس المال. يطلق على هذه السندات اسم سند قسيمة العراق 2028 البالغة 5.8%، ويعود سبب التسمية إلى أنّ آخر دفعة مستحقة ستكون في عام 2028، وسعر الفائدة عليها يبلغ 5.8%. هذا وإن هذه السندات هي الأولى من نوعها التي يصدرها العراق في الأسواق الدولية، وأصبحت المعيار الذي تُسعّر من خلاله ديون العراق السيادية.

لم يكن هنالك معيارٌ يحتكم إليه العراق إذا ما أراد الاقتراض من الأسواق الدولية قبل أن تتم هذه الصفقة، وبالتالي فإنّ تكلفة الاقتراض العراقية كانت مبنية على التخمين فحسب. إنّ هذه السندات يتم تداولها في الأسواق المالية الرئيسية مثل نيويورك ولندن، ولذلك كان بإمكان أي شخص أن يذهب على شاشة بلومبيرج أو رويترز للتحقق من أسعار ديون العراق وكم سيكلف الاقتراض الحكومة العراقية. وبهذه الطريقة، عاد العراق على المستوى السيادي إلى أسواق رأس المال. أما بالنسبة لأي اقتراضِ لاحق، فقد أصبح للعراق الآن نقطة مرجعية متاحة للجمهور في سوق أسعار الديون.

شاركت بعد ذلك، وأثناء عملي في البنك الألماني (Deutsche Bank)، في قيادة الفريق الذي قدم المشورة للعراق من خلال قروضٍ أخرى، بما في ذلك إصدارين آخرين في سوق رأس المال في عام 2017. كما قمت بتنفيذ عدد من صفقات تمويل الصادرات التجارية منظمة لقطاع الكهرباء والطاقة. يمتلك العراق الآن ثلاثة سندات دولية: سندات العراق 2028 البالغة قيمتها 2.7 مليار دولار الصادرة في عام 2006، وسندات العراق 2022 البالغة قيمتها مليار دولار بنسبة فائدة 2,14% والمقدمة من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، وسندات العراق 2023 البالغة قيمتها مليار دولار بنسبة فائدة 6,75%. كانت ميول المستثمرين الدوليين للائتمان العراقي قوية للغاية، حيث زاد الاكتتاب على سندات العراق 2023 بمقدار سبعة أضعاف وقت الإصدار. إن هذه السندات تقدم نظرة حقيقية على شهية المستثمرين للائتمان العراقي وكيف تؤثر عليه عوامل أخرى مثل الاعتماد على عائدات النفط والقوة المؤسسية الحكومية والاستقرار السياسي.

وكجزءٍ من إصدارات أسواق رأس المال، فقد عملت أيضاَ مع شركائنا في المصارف الرائدة المشتركة للحصول على أول تصنيف ائتماني سيادي للعراق من وكالات الائتمان الدولية ستاندرد آند بورز(Standard & Poor's) وفيتش (Fitch).

وبالإضافة إلى تأسيس معيار للعراق في أسواق رأس المال الدولية، فإن السندات والتصنيفات الائتمانية تتمتع بفائدة إضافية تتمثل بغرس الانضباط في وزارة المالية والبنك المركزي العراقي من خلال نشر التقارير المالية الفصلية والسنوية المطلوبة للمستثمرين الدوليين.

ويتوجب عليّ هنا أن أُشيد بالحكومة العراقية لإدارتها هذه المعاملات المالية الدولية المعقدة على الرغم من التحديات التي كان ولا يزال العراق يواجهها. وفي حين كانت وزارة المالية الراعي الرئيسي، فإن مجاميع العمل تضمنت أصحاب مصلحة آخرين من البنك المركزي العراقي ووزارات أخرى. لقد كانت هذه الإنجازات مذهلة بحق.


هل بإمكاننا معرفة المزيد عن دورك مع مؤسسة التمويل الدولية (IFC) وعلى ماذا يركز عملهم في العراق الآن؟

إني أعمل مستشاراً لمؤسسة التمويل الدولية في شؤون البنى التحتية، والتصنيع والزراعة والخدمات، بالإضافة إلى الرعاية الصحية والعقارات؛ حيث يركز فريقنا على الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وتركيا. يتمثل التزام مؤسسة التمويل الدولية (IFC) في دعم القطاع الخاص، وبوصفها جزءاً من مجموعة البنك الدولي، تعمل المؤسسة في الأسواق التي يمكنهم إحداث فرقٍ فيها من خلال دعم الاستثمارات الدولية في البلاد. ولذلك، فبالنسبة للبلدان التي تُعد شديدة الخطورة والخارجة من الحروب والصراعات الاجتماعية، مثل العراق، يتمثل الالتزام بالمساعدة في جلب الاستثمارات إلى القطاع الخاص.

يُعد العراق أحد أهم البلدان في الشرق الأوسط بالنسبة لمؤسسة التمويل الدولية، حيث يعملون على عدة جبهات. فعلى سبيل المثال، دعمت مؤسسة التمويل الدولية شركة البصرة للغاز (BGC)، وهو مشروع مشترك بين شركة العراق للغاز الجنوبي وشركة شيل وميتسوبيشي. حيث تلتقط شركة BGC الغاز المتوهج من الحقول الجنوبية في العراق، وتعالجه، ثم تستفيد من جزءٍ منه في قطاع الكهرباء في العراق وتبيع الجزء الآخر دولياً بربح. تعد هذه الشركة واحدة من أنجح شركات الشراكة العراقية بين القطاعين العام والخاص. كما قادت مؤسسة التمويل الدولية اتحاداً مصرفياً قدم التمويل لشركة البصرة للغاز. وقد نجحوا في تنظيم تسهيل قرضٍ بقيمة 360 مليون دولار. كان هذا أول قرض تمويلٍ للمشروع أمنه المنتج المكرر لشركة BGC بالإضافة إلى كونه ضماناً للشركة. حيث أثبت ذلك أن الشركات العراقية يمكنها الاقتراض دون الحصول على ضمان وزارة المالية أو الحكومة الاتحادية بوصفهم ضامنين صريحين لهذا الاقتراض.

تهتم مؤسسة التمويل الدولية بدعم المشاريع البيئية والاجتماعية ومشاريع الحوكمة. حيث إنهم يدعمون حالياً التحول نحو الطاقة المتجددة على مستوى العالم. يمتلك العراق إمكانات هائلة في مجال مشاريع الطاقة المتجددة الشمسية والريحية، وربما الهيدروجينية أيضا. حيث تتطلع مؤسسة التمويل الدولية إلى تحديد الشركات ذات المصداقية والسمعة الجيدة التي يمكنها إقامة شراكاتٍ معها لتمويل مشاريعها في قطاعات البنى التحتية، و والتصنيع والزراعة والخدمات، وجلب المستثمرين الدوليين والإقليميين إلى جانبهم. بالإضافة إلى أن مؤسسة التمويل الدولية تعمل على جلب استثمارات وخبرات القطاع الخاص إلى الكيانات المملوكة للدولة التي تستنزف حالياً الميزانية العراقية استنزافاً كبيرا.


كيف تنعكس إصلاحات الشركات المملوكة للدولة أو إعادة بناء هذه النماذج على إزدهار اقتصادنا؟

يمكن أن يكون لإصلاح قطاع الشركات المملوكة للدولة تأثير إيجابي مادي على الاقتصاد. حيث توظف الشركات المملوكة للدولة حالياً حوالي 600,000 شخص، وهم ينتجون سلعاً ومنتجات منخفضة الجودة، ويستنفدون الموارد الحكومية النادرة من خلال دفع الرواتب وتقديم الإعانات المالية التي تغطي الوقود والمواد الخام الأخرى. كما يمكنهم أيضا التأثير سلباً على شركات القطاع الخاص لأن العديد منها تستفيد من العقود المبرمة مع الحكومة لتكون المزود الوحيد للسلع والخدمات للكيانات الحكومية. وبالتالي، فإن العديد من هذه الشركات تستنزف الأموال والموارد العامة وتخنق العمالة في القطاع الخاص. فضلاً عن أن الدراسات أظهرت أن الشركات المملوكة للدولة تميل إلى أن تكون أكثر تلويثاً للبيئة مقارنة بشركات القطاع الخاص الأكثر تقدماً في اعتماد تكنولوجيات أنظف. يمكن تصنيف الشركات المملوكة للدولة إلى ثلاثة أنواع: أولاً، الشركات التي يحتمل أن تكون مربحة والتي يمكن خصخصتها، مع مشاركة القطاع الخاص، لتحقيق المزيد من النمو. ثانياً، الشركات التي لا تحقق أرباحاً ولكن يمكن أن تصبح مربحة إذا ما تم إصلاحها وإعادة هيكلتها (أي بإدخال إدارة القطاع الخاص مع الاحتفاظ بالملكية الحكومية). وثالثًا، الشركات غير الربحية وغير القابلة للإصلاح والتي قد يتوجب إغلاقها.

إن إحدى القضايا الرئيسية التي يجب على الحكومة العراقية النظر فيها هي تأثير إصلاح الشركات المملوكة للدولة على التوظيف. حيث سيحتاج موظفو القطاع العام في الشركات المملوكة للدولة إلى التدريب المهني وإعادة تأهيلهم وإدخالهم في القوى العاملة. لذا، فإن الحكومة بحاجة إلى اتخاذ قرار بشأن ما إن كانت ستستمر في دعم الشركات التي لا تساهم إلا بقدرٍ ضئيلٍ في الاقتصاد. إذ يمكن استثمار وفورات التكاليف الناتجة عن إغلاق الشركات غير الربحية وغير القابلة للإصلاح المملوكة للدولة في إعادة تأهيل النظام التعليمي في العراق لإعداد مئات الآلاف من خريجي الجامعات سنويًا لاحتياجات شركات القطاع الخاص. يوجد في البلاد حالياً معدلات عالية من العمالة منخفضة المهارة وغير الماهرة ومعدلات منخفضة من الموظفين ذوي المهارات العالية الذين يتمتعون بالمهارات اللغوية اللازمة التي يحتاجها القطاع الخاص.

لذا، فإن الحكومة بحاجة إلى اتخاذ قرار استراتيجي بشأن قطاع الشركات المملوكة للدولة من أجل مساعدة الاقتصاد العراقي. وإذ إن العراق هو دولة تعتمد على النفط، ففي كل مرة تنهار فيها أسعار النفط، يضغط ذلك على الحكومة للقيام بالإصلاح وإعادة الهيكلة. في حين يسترخي الجميع في الحكومة عندما يرتفع سعر النفط، وكأن المشكلة قد تلاشت تماما. إلا أن حقيقة الأمر تكمن في أن المشكلة لا تزال قائمة، بل وتتفاقم وتزداد حجماً كل عام بسبب الزيادة المستمرة في العمالة في القطاع العام. يعرف الكثير من الناس في الحكومة ذلك، ولكن يبدو أن الإرادة السياسية لتنفيذ الإصلاحات اللازمة غائبة.


لقد شاركت بصورةٍ وثيقة في العمل على البنية التحتية المالية وأسواق رأس المال في العراق منذ 2003. كيف تغير ذلك في العقدين المنصرمين؟ وما هي التحديات الرئيسية؟ وما هو الطريق للمضي قدماً؟

أعتقد أنّ الوصول إلى الائتمان أمر بالغ الأهمية للطبقة المتوسطة العراقية للظهور من جديد ومن أجل ازدهار الاقتصاد. لا يوجد ائتمان في العراق في الوقت الحالي - لا الإقراض المصرفي ولا الأسهم الخاصة - على أي نطاق كبير. حيث لا يوجد سوى بضع بنوك مملوكة للدولة والقطاع الخاص تقدم الائتمان للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة. كما إنهم يحتاجون إلى ضمانات عقارية ضخمة مع نسبة قرض للقيمة تبلغ 30% فقط. هذا وإن أسعار الفائدة مرتفعة للغاية سنوياً في القروض قصيرة الأجل ذات الأرقام المزدوجة المنخفضة. ولسوء الحظ، فقد بقي هذا الوضع على حاله منذ عام 2003. ولكن من جانبه، فقد اتخذ البنك المركزي العراقي بعض الخطوات الهامة أيضا. حيث أنشأ صندوقاً للمشاريع الصناعية التي يديرها البنك الصناعي. كما إنه قدم قروضاً للمشاريع الصغيرة والمتوسطة الحجم. ومن الجدير بالذكر أن العراق يمتلك أنظمة مصرفية حديثة مقارنة ببقية المنطقة. إذ قام البنك المركزي في البداية بزيادة رأس المال المدفوع اللازم للحصول على ترخيص مصرفي. كما أن رأس مال البنك التنظيمي المطلوب هو واحد من أعلى رؤوس الأموال في المنطقة، والذي يصل إلى 220 مليون دولار.

ولكن على الرغم من ذلك، لا تزال المشكلة تكمن في أن معظم المصارف العراقية لا تقوم بالاكتتاب المناسب في الائتمان بناءً على تحليل التدفق النقدي للمقترض. بالإضافة إلى ذلك، يسعد بنوك القطاع الخاص بعدم إقراض القطاع الخاص، نظرًا لأسعار الفائدة المرتفعة التي تدفعها حكومة العراق مقابل الاقتراض في سندات الخزانة بالعملة المحلية، إذ إن بإمكانهم دائمًا إقراض الحكومة فقط، وهم بذلك يحصرون مخاطرهم في الحكومة العراقية.

أعتقد أن هذا هو المجال الذي يمكن أن تلعب فيه التكنولوجيا المالية دوراً في توفير الائتمان للشركات الصغيرة والمتوسطة. فلقد رأينا ذلك في العديد من الأسواق النامية التي تعاني من نفس النقص في تحديات الائتمان. إن شركات التكنولوجيا المالية هذه - سواء كانت شركات ممولة تمويلاً نانوي او مكروي التي تستخدم الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي للاكتتاب الائتماني أو التمويل من نظير إلى نظير، والتي تعمل على إضفاء الطابع الديمقراطي على الإقراض - قد تجاوزت الأنواع التقليدية للإقراض المصرفي وتخطتها.

في حين تمثل أسواق رأس المال الجزء الآخر الذي يمكن أن يلعب دوراً رئيسيا. لقد مضى على وجود سوق العراق للأوراق المالية عقود. ولا يزال هنالك أملٌ في أن يعتمد سوق العراق للأوراق المالية، إلى جانب هيئة الأوراق المالية العراقية التي تعد الهيئة المنظمة، التشريعات اللازمة لتسهيل الائتمان للشركات العراقية المدرجة في سوق العراق للأوراق المالية. كما ينبغي للشركات العراقية القائمة أن تكون قادرة على الاقتراض عن طريق إصدار سندات الشركات وكذلك الأسهم من أجل تمويل نموها.

كانت هنالك جهود لجعل المستثمرين الدوليين يستثمرون في أسهم الشركات المدرجة في سوق العراق للأوراق المالية، وكنا نأمل جميعاً أن تحفز العروض العامة الأولية (IPO) لشركة آسياسيل وزين وغيرهما المزيد من المستثمرين الدوليين. إن هنالك عدداً قليلاً من الصناديق الدولية التي تستثمر في سوق العراق للأوراق المالية، إلّا أنّ الأحجام والسيولة لا تزال صغيرة.

يتعين اتخاذ عدد من الخطوات لكي يدخل مستثمرو المحافظ الدوليون العراق بصورة أكثف. فعلى سبيل المثال، كان الأمين المملوك للحكومة العراقية، المتمثل بمركز الإيداع العراقي (IDC)، يمارس الاحتكار لسنوات ورفض فتح المجال لأمناء القطاع الخاص الموثوق بهم والمعتمدين. من المحتمل أنّ هذا الأمر قد تغير مؤخراً، لكن العراق قد خسر على أقل تقدير عقداً في جذب رأس المال من الصناديق الدولية. كما ساهم عدم اعتماد تشريع يسمح بإصدار إيصالات الإيداع العالمية لأسهم الشركات العراقية في عدم استغلال الإمكانات الحقيقية لسوق العراق للأوراق المالية في جذب الاستثمار الأجنبي. ولا ينفك رواد الأعمال وأصحاب الرؤى الذين يحاولون إحداث هذه التغييرات عن محاربة نظامٍ قديمٍ وغير شفاف.

يعد سوق رأس المال القوي أمراً بالغ الأهمية لتنمية البلاد. ويلزم تحديث بيئة الرقابة التنظيمية لكلّ من سوق العراق للأوراق المالية وهيئة الأوراق المالية العراقية باستمرار من أجل استحداث طرق مبتكرة لاجتذاب رؤوس الأموال الدولية والإقليمية للاستثمار في الشركات العراقية. وأنا أعي أنّ بعض شركات السمسرة العراقية ذات التفكير المستقبلي تحاول بنشاط إحداث هذا التغيير المطلوب.

لقد كان قانون الاستثمار الأجنبي المباشر رقم 17 لعام 2003 أحد أكبر عوامل الجذب للمستثمرين الأجانب، مما سمح بالاستثمار الأجنبي بنسبة 100% في معظم القطاعات باستثناء النفط والغاز والعقارات. ولكن كان قد أقرّ البرلمان العراقي للأسف تشريعاً يحدد الملكية الأجنبية بنسبة 49%. في حين أنّ القصد من هذا القانون ربما كان جيداً - لحماية اصحاب الأعمال العراقيين – إلّا إنّني أعتقد أنّ هذا القرار كان غير مدروسٍ لسببٍ بسيط: فالعراق ليس دبي في التسعينيات، إذ ما يزال العراق يواجه تحديات هائلة منها: كيف ينظر المستثمرون الأجانب إلى الأمن في البلاد وانعدام الشفافية في النظام والبيئة القانونية غير الودية والنظام الضريبي وصعوبة إنشاء مشروع تجاري وعدم توفر الائتمان. لذلك، فإنّ إضافة طبقة أخرى من التعقيد من خلال تحديد المستثمر الأجنبي على امتلاك 49% فقط من الأعمال التجارية أمرٌ غير مفيد. أعتقد أنّ الذين عملوا على هذا التشريع لا يقدّرون أنّ العراق يتنافس مع دول الجوار الأخرى على المستثمرين الأجانب. فمنطقة الشرق الأوسط لديها أسواق استثمار تنافسية أخرى مقارنة بالعراق، مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر وتركيا.

بالإضافة إلى ذلك، من المحتمل أن يختار المستثمرون الأجانب ذوو الخبرة شريكاً عراقياً يمكنه مساعدتهم في فهم المشهد المحلي. لذا أعتقد أنّ وضع حد أقصى للملكية الأجنبية كان أمراً غير ضرورياً.

ومع ذلك، ثمّة حلول يمكن اعتمادها لجعل العراق أكثر قابلية للاستثمار، مثل إنشاء مناطق تجارة حرة. فعلى سبيل المثال، يعد مركز دبي المالي الدولي (DIFC) ومنطقة جبل علي للتجارة الحرة (JAFZA) وأسواق أبو ظبي العالمية (ADGM) في الإمارات العربية المتحدة أمثلة جيدة. حيث تخضع المنطقة الحرة لأفضل المعايير الدولية، بما في ذلك قوانين الاستثمار والعمل. في حين قد يتمثل حلٌّ آخر بالنظر في إعفاء الشركات المدرجة في سوق العراق للأوارق المالية من قيود أقلية الاستثمار الأجنبي المباشر. وهذا من شأنه أن يحفز المزيد من الشركات العراقية على أن تُدرج في سوق العراق للأوراق المالية وسيحفز كذلك المستثمرين الأجانب على الاستثمار في تلك الشركات.


كيف تقيّم فرص التكنولوجيا المالية في العراق بناء على خبرتك في هذا القطاع؟

لقد عملت في مجال الخدمات المصرفية التقليدية للشركات والاستثمار لمدة عقدين من الزمن وتحولت نحو مجال التكنولوجيا المالية في السنوات الخمس الماضية. وأنا الآن أعمل في مجلس إدارة شركتين في مجال التكنولوجيا المالية، أحدها في المملكة المتحدة والأخرى في ألمانيا. أعتبر نفسي مصرفياً استثمارياً، كما أعتقد أنّ قطاع التكنولوجيا المالية يمثل إحدى أكثر الفرص إثارة في الاقتصاد العراقي. يمتلك العراق جميع مكونات اللازمة لظهور قطاع التكنولوجيا المالية ونموه وازدهاره، حيث يبلغ عدد سكان العراق أكثر من 40 مليون نسمة، معظمهم من الشباب الضليعين بالتكنولوجيا، مع واحدة من أعلى نسب انتشار الإنترنت والهواتف الذكية في المنطقة. ولكن، كما ذكرنا مسبقاً، ثمة نقصٌ في الائتمان التقليدي. إن هذه بيئة خصبة التكنولوجيا المالية. وعلى الرغم من أنّنا لا نزال في المراحل الأولى التكنولوجيا المالية، لكن يمكننا بالفعل رؤية تأثيره. بدأ الأمر في تطبيقات التوصيل مع كريم، حيث أصبح العراق أحد أكبر وأسرع الأسواق نمواً لتطبيقات سيارات الأجرة؛ ثم قامت شركة كريم بعد ذلك بدمج المدفوعات والقروض عبر الإنترنت لسائقيها. كما أننا نشهد الآن التجارة الإلكترونية وحتى منصات التجارة الاجتماعية مثل ليزو وأورزدي ومسواك وفدشي. بالإضافة إلى منصات الإقراض التي توفر خدمات الشراء الآن والدفع لاحقاً.

لا تزال هناك حاجة إلى بعض التعديلات التنظيمية ليبدأ قطاع التكنولوجيا المالية بالنمو فعلياً، كما أنّ هنالك حاجة إلى تحول في ثقافة الأفراد، حيث لا يزال العراقيون يفضلون النقد نظراً لنقص الثقة في النظام المصرفي. ولسوء الحظ، تعرضت المدفوعات الإلكترونية في العراق إلى نكسة بسبب الطعون القانونية الأخيرة حول بعض مقدمي المدفوعات. كما تم تقديم تراخيص المحفظة الأولية والمدفوعات الإلكترونية الأولية لمقدمي الخدمات الخلوية الذين أطلقوها باستخدام نظام تحكم مغلق بدلاً من نظام تحكم مفتوح، الأمر الذي حدّ من استخداماتهم لسوء الحظ. إن الأمر مشابه للبنك الذي يصدر بطاقات دفع مباشر لا يمكن لعملائه استخدامها سوى لسحب النقود من ماكينات الصرف الآلي الخاصة بالمصرف نفسه. وهذه هي التحديات والفرص التي يتعين على رواد الأعمال العراقيين في مجال التكنولوجيا المالية إيجاد حلول لها.


ما الذي حفزك على المشاركة في شبكة المستثمرين المخاطرين العراقية، وما هي وجهة نظرك حول المشهد الاستثماري في العراق؟ وكيف يمكننا صنع عراق أكثر قابلية للاستثمار؟

أنا مهتم بمشهد الشركات الناشئة في العراق ورواد الأعمال الطموحين الذين يقودون عجلة التغيير في بيئة الأعمال، وأريد أن أكون جزءاً من تلك الحركة. لقد حضرت العديد من العروض التقديمية للشركات الناشئة منذ انضمامي إلى شبكة المستثمرين المخاطرين العراقية، وكانت التجربة حتى الآن مفيدة للغاية. يمكن أن يستفيد مشهد الشركات الناشئة العراقية من المزيد من التعاون في مساعدة هذه الشركات الناشئة من خلال الحاضنات والمسرعات ومنظمات دعم ريادة الأعمال، فهنالك العديد من رواد الأعمال العراقيين الذي يملكون أفكاراً ممتازة، ولكنهم لم يفكروا بعد بمعنى وضع أفكارهم في خطط تجارية جاهزة للسوق وتحويلها إلى فرص استثمارية. نحن بحاجة إلى مزيد من الدعم من المجتمع الدولي لتزويد رواد الأعمال بالموارد، مثل مركز الأعمال في كابيتا.

كما أنّنا نحتاج أيضاً إلى المزيد من رأس المال المبدئي ورأس المال الاستثماري وصناديق الأسهم الخاصة، بالإضافة إلى منصات الإقراض، والتي تخوضَ ضمارَ الإنشاء في الوقت الحالي بالفعل. بيدَ أنّ الفرص المتاحة في السوق تفوق وفرة رأس المال بكثير.

أعتقد أنّ جيل الشباب الريادي الجديد هو شعلة الأمل الوحيدة للبلاد. لقد ألهمتني حماسة رواد الأعمال من الشباب والشابات عندما أراهم يتحدثون عن قصص أو عن تحد معين يرونه في السوق والحل الذي ابتكروه للتغلب عليه. حيث أني أقارن تلك الطاقة الإيجابية الإبداعية بطاقة بيروقراطي معرقلٍ يميل إلى التخطيط المركزي كان يجلس خلف مكتبه منذ 40 عاماً ويتبنى موقفاً قديماً أو عدائياً تجاه القطاع الخاص.

أنا أؤمن أن بإمكان التكنولوجيا تغيير العراق والعالم بأكمله للأفضل. وأريد أن ألعب دوراً صغيراً في إنشاء هذا العالم الجديد.



اطلع على النسخة الانكليزية من هذه المقابلة

اقرأ المجلة كاملة


Posted in on Tuesday, 29th November, 2022