القطاع الخاص الذي نحتاجه: دعوةٌ للتحرّك
علي السهيل، محلل مالي معتمد
زرت العراق في 2019 بعد غيابٍ طال 13 سنة. كان الغرض من هذه الزيارة حضور حدثين: مسابقةٌ للشركات الناشئة في المحطة ومؤتمرٌ معنيٌّ بالتكنلوجيا نظّمهُ مجلس الأعمال العراقي البريطاني (IBBC). كانت الشركات الناشئة في ذلك الوقت فتيّة، ولم يكن هناك سوى بضعة شركات جاهزة للاستثمار.
ومنذ ذلك الحين، لم يعد العالم كما كان من قبل، إذ جمعت الشركات العراقية الناشئة 19 مليون دولار في الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2022، وهو ما يزيد عن ضعف المبلغ الذي جُمع في السنوات الثلاث السابقة والذي بلغ 9 ملايين. كما أنّ النمو لا يقتصر على بيئة الأعمال للشركات الناشئة فحسب؛ حيث يشهد القطاع الخاص العراقي بأكمله نمواً سريعاً. ومن جانبه، يتوقع صندوق النقد الدولي نمو الناتج المحلي للعراق بنسبة 9.5% في عام 2022، ما يسجل النمو الأسرع في جميع أنحاء الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. ومن جانب آخر، يشير آخر استطلاع لتوقعات التوظيف في العراق الذي أجرته شركة MSelect إلى أنّ 75% من الشركات التي شملها الاستطلاع تتطلع إلى زيادة قوتها العاملة، ولا يتطلع أي منها إلى تسريح الموظفين.
إنّ الأرقام كبيرة، لكن التغييرات التي نشهدها على أرض الواقع أكثر روعة. حيث أنّ روح ريادة الأعمال تسيطر على البلاد، فترانا نشهد إطلاق المزيد من الفعاليات والتعاونات والبرامج، وكل ذلك باسم دعم القطاع الخاص وريادة الأعمال. وقد أطلقنا في كابيتا صندوق أورانج كورنر للابتكار (OCIF)، وهو صندوق بقيمة 1 مليون يورو مخصص لدعم حاضنة أورانج كورنر بغداد. سيشمل البرنامج تقديم الإرشاد والتوجيه والدعم المالي على شكل استثمارات في الشركات الناشئة. هذا وقد كان لدينا أيضاً أيام الشركات الناشئة العراقية في معرض دبي 2020 الذي نظّمته شركة ربيع للأوراق المالية، والذي سلّط الضوء على بعض الشركات العراقية الناشئة الرائدة وكابيتا. ومن جانبها، أصدرت حكومة أقليم كردستان قانوناً جديداً لتبسيط عملية تسجيل الشركات، وهو مجال جديد يؤكد عليه المستثمرون ورجال الأعمال غالباً باعتباره عائقاً لا بدّ من تجاوزه لزيادة الاستثمارات.
إنّ هذه التطورات لا تمر مرور الكرام. حيث زار العراق 5 ملايين زائر أجنبي في عام 2021، ونشهد رغبةً متزايدة للاستثمار في السوق العراقية. إلَا أنّه على الرغم من ذلك، فإنّ المستهلك العراقي، بالنسبة لمعظم المستثمرين الأجانب، هو عامل الجذب الرئيس وليس الشركات العراقية. لقد سلط العديد من زملائي في مجتمع الاستثمار الضوء على بعض التحديات الحاسمة التي تواجه رواد الأعمال العراقيين فيما يتعلق بالبنية التحتية التنظيمية والمصرفية. ولقد قدمت في مقالاتي السابقة اقتراحات حول كيفية تدخل الحكومة العراقية والمساعدة في دعم القطاع الخاص بصورة عامة وبيئة ريادة الأعمال بصورة خاصة. أما في هذا المقال، فأودّ أن ألقي نظرة على بعض المجالات الأخرى التي يمكن لرواد الأعمال العراقيين والجهات الفاعلة في بيئة الأعمال والمستثمرين التركيز عليها للمساعدة في جعل العراق أكثر جاهزية للاستثمار.
إلى رواد الأعمال: ركِزوا على المُشكلة
ما تزال مساهمة القطاع الخاص العراقي في الاقتصاد كلّه منخفضة للغاية، في حين أنّ الدخل الحكومي من الضرائب لا يتجاوز 1٪ من الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بمتوسط منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا البالغ 12٪. ومن السمات البارزة الأخرى لهذا القطاع أنّ الشركات الصغيرة تهيمن عليه، حيث أنّ 60٪ من الشركات الصغيرة والمتوسطة لديها 20 موظفاً أو أقل وفقاً للبنك الدولي. وقد ساهمت العوامل المتصلة بالمسائل القانونية والوصول للتمويل في هذه الظاهرة إسهاماً مباشراً وخلقت ثقافة تجارية حيث يحاول رواد الأعمال تأسيس أعمال تجارية متعددة في نفس الوقت لإدارة تقلبات السوق.
يتطلب تأسيس الأعمال التجارية التي تحقق عوائد كبيرة للمستثمرين أن يكونَ متوسّعاً، حيث سلّط الكثير من قادة الفكر الضوء على التركيز بوصفه مفتاحاً لتحقيق التوسع وتنمية الأعمال. يحتاج رواد الأعمال العراقيون إلى تبني هذا المفهوم، ولكن لسوء الحظ فإنّنا نرى العديد من رواد الأعمال الذين ما إن تبدأ شعبية أعمالهم التجارية بالفتور حتى تراهم يحولون تركيزهم إلى حل مشاكل أخرى أو إنشاء أعمال تجارية جديدة تلبي احتياجات لا تتسق مع القيمة المضافة التي تقدمها أعمالهم التجارية الأولى. إنّ هذا السلوك غالباً ما يؤدي إلى نقص في موارد الشركة، والأهم من ذلك، إنه يُلقي بعبء الوقت على الأشخاص الرئيسيين في الشركة. وهذا بدوره يخلق تحديات كبيرة من منظور حوكمي للمستثمرين.
لذا، فإن رواد الأعمال العراقيين بحاجة إلى يهدّئوا من روعهم وأن يتعمّقوا في المشكلة التي يحاولون حلها. إن بدأت شعبية الشركة بالفتور، فإن الإجابة لا تكمن في حل مشكلة جديدة، إنما هي نقطة لاتخاذ قرار حول ما إن كنت ستضاعف الرهان أو ستعتمد عليه وحده. يُعد التجريب أمراً ضرورياً بالنسبة للشركات الناشئة التي لا تزال في مراحلها المبكرة، ولكن يجب النظر إلى ذلك من حيث إيجاد سوق مناسب يلاقي فيه المنتج الذي تقدمه شركتك الرواج، وليس البحث عن كل مشكلة قد تتمكن من حلها.
لمستثمري المرحلة المبكرة: استثمروا لتبنوا
لقد شهدنا مؤخراً في العراق إقبالاً من مستثمرين يتطلعون لكي يصبحوا مستثمري المرحلة مبكرة. فقد أكملت شركة تكوين مؤخراً أكاديمية مستثمرين مخاطرين وشهدت شبكة المستثمرين المخاطرين العراقية (IAIN) الخاصة بنا إقبالاً متزايداً من المستثمرين الجدد. ولقد رأينا المؤسسات العراقية في الأشهر الأخيرة تستثمر مباشرة في الشركات الناشئة. هذا وقد شهدنا كذلك تحرّك المؤسسات العراقية نحو الاستثمار في الشركات العراقية الناشئة. إنّ هذه الأنشطة جميعها إيجابية للغاية وضرورية لبناء بيئة ريادة أعمال متينة.
إنّ العراق بحاجة إلى إبراز إمكانات قطّاعه الخاص. فليس هناك طريقة أفضل من عرض قصص النجاح مع الشركات العراقية الناشئة. وهذا يتطلب التركيز على مساعدة الشركات على النمو من خلال إنشاء حوكمة قوية ودعم المبادرات الاستراتيجية للأعمال التجارية. ولا يقتصر الأمر على وجود أهداف يتوجب على المستثمرين تحقيقها فحسب، بل إنشاء آليات للإبلاغ والمساءلة بالإضافة إلى تزويد رواد الأعمال بالتوجيه والإرشاد لمساعدتهم على توسيع أعمالهم التجارية. يحتاج مستثمرو المرحلة المبكرة في العراق والمستثمرون من القطاع الخاص بصورة عامة إلى أن يفهموا أنّ تحقيق إمكانات الشركات لا يمكن أن يأتي إلا بتبنّي عقلية بناء الشركة جنباً إلى جنب مع رائد الأعمال بدلاً من انتظار رأس المال لتحقيق العوائد من تلقاء نفسه.
إلى المؤسسات المالية: عليكم بالانفتاح
تمثل البنية التحتية المصرفية حاجزاً كبيراً في القطاع الخاص والاقتصاد العراقي. حيث قَدَّر البنك المركزي العراقي أنّ 99.8% من النفقات الاستهلاكية الشخصية في العراق البالغة 122 مليار دولار تم تحصيلها نقداً في عام 2019. كما يشير البحث الأخير الذي أجريناه في قطاع التجارة الإلكترونية إلى وجود إقبال كبير على المدفوعات الرقمية منذ ذلك الحين. ولكن على الرغم من ذلك، فما يزال الاقتصاد العراقي اقتصاداً قائماً على النقد في الغالب. عندما يتعلّق الأمر بالخدمات المصرفية بصورة عامة والمدفوعات عبر الإنترنت تحديداً، فإنّ التركيز على تحسين تجربة المستخدم أمرٌ بالغُ الأهمية لبناء اقتصاد رقمي في العراق. إذ ما تزال تجربة المُستخدِم ضعيفة جداً في جانب استخدام بوابات الدفع الإلكترونية التي توفرها الشركات الناشئة أو المستخدم الذي يدفع عبر الإنترنت وأقل مستوىً من نظرائنا الإقليميين.
أما عندما يتعلق الأمر بالحصول على الاعتمادات، فإن العراق يحتل المرتبة 186 وفقاً لاستبيان أجراه البنك الدولي لممارسة الأعمال التجارية في عام 2020 من بين 190 دولة شملها الاستبيان. إنّ الحصول على أيّ شكل من أشكال الاعتماد من المصارف ليس خياراً بالنسبة للعديد من الشركات العراقية الصغيرة والمتوسطة. لذا، فإنّ المصارف المحلية تحتاج أن تؤدي دوراً أكثر نشاطاً في توجيه رأس المال نحو الشركات العراقية.
إلى الجهات الفاعلة في بيئة الأعمال: وجّهوا جهودكم
نشهد في الآونة الأخيرة تزايُد عدد البرامج والمنظمات التي تتطلع لدعم أنشطة ريادة الأعمال، حيث قامت المحطة بتوسيع خدماتها لتشمل العديد من المدن العراقية، كما أعلنت منظمة 51Labs عن شراكة مع الجامعة الأمريكية في كردستان، وأطلقت شركة Founder Institute برنامج تسريع الأعمال خاصتها لرواد الأعمال العراقيين.
يُشير تزايُد هذه البرامج إلى تطور قنوات المستثمرين والشركات الناشئة. برغم ذلك، ما تزال القيود مرتبطة إلى حد كبير بالبنية التحتية التنظيمية واستقطاب استثمارات رأس المال الأجنبي. إنّنا نعتقد أنّ اتباع نهجٍ أكثر تعاوناً من شأنه أن يفيد جميع الجهات الفاعلة ويمكن أن يخلق تغييراً ملحاً للتحدّي الأبرز الذي يواجه رواد الأعمال. كما يمكن أن يتخذ تنسيق الجهود شكل مناقشات غير رسمية ويسلط الضوء على بعض التحديات الأوسع نطاقاً التي تواجه العامة وصانعي القرار.
إلى الآخرين: استثمروا في رأس المال البشري العراقي
إنّ الهدف الأسمى من جعل الأعمال التجارية العراقية، والعراق بشكل عام، أكثر قابلية للاستثمار هو تحديد شكل كل من الأعمال التجارية العراقية ورأس المال البشري ليكونا أكثر قُدرةً على المنافسة. وفقاً لمؤشر رأس المال البشري، فإنّ العراق متأخر جداً عن نظرائه في المنطقة، حيث سجل 0.41 من 1 مقارنة ب 0.49 في مصر و 0.52 في لبنان و 0.55 في الأردن و 0.56 في الكويت و 0.58 في المملكة العربية السعودية و 0.67 في الإمارات العربية المتحدة. كما إنّ نظام التعليم العراقي الحالي غير قادر على إعداد الشباب العراقي وتزويدهم بالمهارات اللازمة للمنافسة في عالم الأعمال التجارية الحديث. لذا، فعلينا أن نُكثف جُهودنا في مجال تزويد الشباب بالمهارات الرقمية.
لقد شَهِدنا صعود نَجمِ قادةِ أعمالٍ عراقيين رائعين بعد عملهم في الشركات الناشئة الإقليمية والمحلية الرائدة في العراق. ولذلك تُعد المبادرات التي تكون على شاكلة مدرسة بغداد للأعمال (BBS) ضرورية لتوفير الفرصة للشباب العراقيين بالتعرض لبيئة العمل الحديثة. ولكن على الرغم من ذلك، هناك المزيد الذي يتعين القيام به من جانب المستثمرين والشركات وجميع الجهات الفاعلة في بيئة الأعمال لتقديم برامج التدريب والتطوير الوظيفي لتطوير المواهب في جميع أنحاء العراق. إنّ الشركات بحاجة إلى اتباع نهج أكثر جدية تجاه التطوير الوظيفي لموظفيها، كما يتعيّن على الخريجين العراقيين أن يأخذوا بعين الاعتبار التدريب في موقع العمل وفرص التعلم بوصفها نقاط اتخاذ قرار حيوية عند البحث عن فرص عمل. إن الاستثمار في المرحلة المبكرة يعتمد بصورة كبيرة على الناس بدلاً من الأعمال التجارية، وينطبق ذلك على القطاع الخاص الأوسع. يستحق الشباب العراقي الفرصة لإظهار قدرتهم على المنافسة على المستوى الإقليمي.